قلت: {كتاب}: خبر، أي: هذا كتاب. و{أحكمت}: صفة. و{من لدن}: خبر ثان، أو خبر {كتاب} إن جعل مبتدأ، أو صفة له، إن كان خبراً. و{أَلاَّ تعبدوا}: {أن} مفسرة، أو مصدرية في موضع مفعول لأجله، أو بدل من الآيات أو مستأنف. و{أن استغفروا}: عطف عليه. و{حين}: متعلق بمحذوف، أي: ألا إنهم يثنونها حين يستغشون... الخ. و{يعلم}: استئناف لبيان النقض عليهم.يقول الحق جل جلاله: أيها الرسول المصطفى، هذا الذي تقرؤه {كتابٌ أحكمت آياته}؛ أتقنت، ونظمت نظماً محكماً، لا يعتريه خلل من جهة اللفظ ولا المعنى، أو أحكمت من النسخ بشريعة أخرى، أو أحكمت بالحُجج والبراهين، أو جعلت حكيمة؛ لأنها مشتملة على أمهات الحكم العلمية. {ثم فُصَّلتْ}؛ بُينت لاشتمالها على بيان العقائد والأحكام والمواعظ والأخبار. أو فصلت سورة سورة؛ ليسهل حفظها. وفُصلت بالإنزال نجماً نجماً، في أزمنة مختلفة. أو فُصل فيها لُخص ما يحتاج إليه من الأحكام. و (ثم): للتفاوت في الحكم؛ لأن الأحكام صفة ذاتية، والتفصيل إنما هو بحسب من يفصل له. نزل ذلك في الكتاب {من لَّدنْ حكيمٍ خبيرٍ}، ولذلك كان محكماً مفصلاً بالغاً في ذلك الغاية؛ لأن الحكيم الخبير لا يخفى عليه ما يخل بنظم الكلام.قائلاً ذلك الكتاب: ألا تعبدوا معه غيره. وقال في القوت: {كتاب أحكمت آياته} يعني: بالتوحيد، {ثم فصلت} أي: بالوعد والوعيد. ثم قال: {من لدن حكيم} أي: بالإحكام للأحكام، {خبير} بالتفصيل للحلال والحرام. {ألا تعبدوا إلا الله}؛ هذا هو التوحيد الذي أحكمه. {إنني لكم منه نذير} بالعذاب، {وبشير} بالثواب لمن آمن به. هذا هو الوعد والوعيد. قاله البيضاوي: {إنني لكم منه} أي: من الله، {نذير وبشير} بالعقاب على الشرك والثواب على التوحيد. {وأن استغفروا ربكم}: عطف على {ألا تعبدوا}، {ثم توبوا إليه}؛ ثم توصلوا إلى مطلبكم بالتوبة؛ فإن المعرض عن طريق الحق لا بد له من رجوع. وقيل: استغفروا من الشرك، ثم توبوا إليه بالطاعة، ويجوز أن يكون {ثم}: للتفاوت بين الأمرين. اهـ.قال ابن جزي: {استغفروا ربكم} مما تقدم من الشرك والمعاصي، ثم ارجعوا إليه بالطاعة والاستقامة. اهـ. وقال الواحدي: {استغفروا ربكم} من ذنوبكم السابقة، {ثم توبوا إليه} من المستأنفة متى وقعت. اهـ. {يمتعكم متاعاً حسناً}؛ يحييكم حياة طيبة بالأرزاق والنعم والخيرات، فتعيشوا في أمن ودعة. {إلى أجل مسمَّى}؛ تمام أجلكم، فلا يستأصلكم بالعذاب، أو يمتعكم بالرجاء فيه والرضا بقضائه؛ لأن الكافر قد يمتع بالأرزاق في الدنيا؛ استدراجاً، {ويُؤتِ} في الآخرة {كلَّ ذي فضلٍ}؛ عمل صالحاً، {فضله} أي: جزاء فضله، فيُوفي ثوابه عمله، أو يعطي كل ذي فضل في دينه جزاء فضله في الدنيا والآخرة.وهو وعد للمؤمن التائب بخير الدارين.{وإن تَولَّوا} أي: وإن تتولوا عما أمرتكم به، {فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير}؛ يوم القيامة، أو يوم الشدة بالقحط والجوع، وقد نزل بهم حتى أكلوا الجيف. أو يوم بدر {إلى الله مرجِعُكم} أي: رجوعكم في ذلك اليوم الكبير، أو بالموت، {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}؛ فيقدر على بعثهم وعذابهم أشد العذاب. وكأنه تقرير لكبر اليوم.{ألا أنهم يَثْنُونَ صدورَهم}؛ يلوونها عن الحق وينحرفون عنه، أو يعطفونها على الكفر وعداوة النبي صلى الله عليه وسلم، أو يولون ظهورهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يروه من شدة البغض والعداوة، {ليستخفوا منه} أي: من الرسول عليه الصلاة والسلام أو: من الله بسرهم، فلا يطلع رسوله والمؤمنين عليه. قيل: إنها نزلت في طائفة من المشركين، قالوا: إن أرخينا ستورنا، واستغشينا ثيابنا، وطوينا صدورنا على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم كيف يعلم ذلك؟ والحاصل: أن الإثناء إن كان عن الحق فالضمير في: {منه}، يعود على الله، وإن كان عن النبي صلى الله عليه وسلم فالضمير يعود عليه؛ وفي البخاري عن ابن عباس: أنها نزلت فيمن كان يستحي أن يتخَلّى أو يجامع فيفضي إلى السماء.وقوله: {ألا حين يستغشون ثيابهم}: يحتمل أن يكون عند النوم، فيكون الإثناء عن الحق، أو عن الله، أو عند مواجهة الرسول، فيكون الإثناء عن رؤيته عليه الصلاة والسلام، أو عن سماع القرآن. قال تعالى: {يعلم ما يسرون} في قلوبهم، {وما يعلنون} بأفواههم فقد استوى في علمه سرهم وعلانيتهم، فكيف يخفى عليه أمرهم واستخفاؤهم منه؟ {إنه عليم بذات الصدور} أي: بالأسرار صاحبة الصدور، أو بحقائق الصدور وما احتوت عليه.الإشارة: يقول الحق جل جلاله: هذا كتاب أحكمت آياته بالتعريف بالذات، ثم فصلت ببيان الصفات، أو: أحكمت بتبيين الحقائق، ثم فصلت بتبيين الشرائع: أو أحكمت ببيان ما يتعلق بعالم الأرواح من التعريف، ثم فصلت ببيان ما يتعلق بعالم الأشباح من التكليف، أو: أحكمت ببيان أسرار الملكوت، ثم فصلت ببيان أحكام الملك. ثم بيَّن ما يتعلق بالذات فقال: {ألا تعبدون إلا الله} وبيَّن ما يتعلق بالصفات من التفصيل فقال: {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه}، أو: بيَّن ما يتعلق بالحقائق، ثم ما يتعلق بالشرائع، وهكذا. فإن جمعتم بين الحقائق والشرائع يمتعكم متاعاً حسناً؛ بشهود ذاته، والتنزه في أنوار صفاته، إلى أجل مسمى، وهو: النزول في مقعد صدق عند مليك مقتدر، ويؤت كل ذي فضل من المعرفة جزاء فضله من الشهود، فمن تولى عن هذا خاف من عذاب يوم كبير، وهو: غم الحجاب، والتخلف عن الأحباب. ثم عاتب أهل الشهود حيث تركوا مقام المشاهدة وتنزلوا إلى مقام المراقبة، بقوله: {ألا إنهم يثنون صدورهم...}، الآية.